مات غازي القصيبي حتى هذه اللحظة أم لم يمت، لا فرق لديه على ما يبدو. فقد نعى نفسه قبل أن ينعاه الآخرون،وأعلن أنه اكتفى وأضناه السرى، وودع رفيقة دربه ومحبيه وصغيرته هديل بقصيدة حديقة الغروب.
خمس وستون… في أجفان إعصار
أما سئمت ارتحالا أيها الساري؟
أما مللت من الأسفار… ما هدأت؟
إلا وألقتك في وعثاء أسفار
وقبل أيام أبدع القصيبي قصيدة المعاناة والألم وهو يصارع المرض في ذلك المكان البعيد، متفردا بكآبته وغربته وعنائه. يقول:
أغالب الليل الحزين الطويل
أغالب الداء المقيم الوبيل
أغالب الآلام مهما طغت
بحسبي الله ونعم الوكيل
فحسبي الله قبل ال شروق
وحسبي الله بعيد الأصيل
لك الله أيها الشاعر العظيم، يا صديق أبي. لو كانت المعاناة تقتسم لاقتسمناها معك، ولغالبنا الليل الطويل معك،ولو كان البكاء يخفف عنك بعض آلامك لبكيناك بدل الدموع دما.
قصيدة القصيبي نزلت عليّ بجبال من الوجع والحرقة، فأبي هو الذي يعاني وأبي هو الذي يستعد لرحلته الأخيرة. لا أبالغ في ذلك فالقصيبي في قصيدة الوداع أعاد إلى بيتنا أجواء الحزن والوجع الذي صاحبت رحيل أبي خليفة قاسم الذي كان صديقا له، ولا تزال كلماته في رثاء أبي محفوظة في ذاكرة أسرتي.
كانت أياما جميلة وكانا ثالوثا شعريا رائعا ذلك الذي ضم القصيبي مع المرحوم الشيخ أحمد بن محمد آل خليفة مع خليفة قاسم. تألق هذا الثالوث عندما كان القصيبي سفيرا للمملكة العربية السعودية في البحرين. توفى والدي ونعاه الشيخ أحمد بن محمد ونعاه غازي القصيبي، وجاء اليوم الذي ينعى فيه القصيبي نفسه بعد أن رحل رفيقاه.
القصيبي عاش رمزا للعزة والكرامة والشرف ورفض أن يبيع نفسه ولم تمنعه وظائفه الرسمية من التمرد على أحوال هذه الأمة، وكتب من القصائد ما جلب عليه النقد والحملات الإعلامية من أعداء هذه الأمة ومنافقيها.
عبر عن رأيه دون خوف في قضية شائكة ومحفوفة بالمخاطر، وهي قضية العمليات الاستشهادية التي ينفذها الشباب والشابات الفلسطينيون ضد العدو الصهيوني، ورأى أن الأمة هي التي انتحرت وليس هؤلاء الشباب. قال دون خوف وهو على أرض لندن ممثلا لبلاده سفيرا:
شهد الله أنكم شهداء يشهد الأنبياء.. والأولياء متم كي تعز كلمة ربي في ربوع أعزها الإسراء انتحرتم؟! نحن الذين انتحرنا بحياة… أمواتها الأحياء أيها القوم! نحن متنا فهيا نستمع ما يقول فينا الرثاء قد عجزنا… حتى شكا العجز منا وبكينا… حتى ازدرانا البكاء…