المقارنة بين الموقف التركي والموقف العربي تجاه القضية الفلسطينية أصبحت منذ أشهر هي لقمة الخبز لكثير من الكتاب العرب ممن وجدوا في التصريحات التركية الساخنة تجاه إسرائيل سببا جديدا للتنديد بمواقف الدول العربية تجاه هذه القضية. ومنذ أن غضب رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان وترك المنصة في مؤتمر دافوس، كتب العرب في مدح أردوغان وشجاعته ما يساوي- في الحجم فقط – ما كتبه هوميروس في الإلياذة والأوديسة، وما يزيد على ما جاء في السيرة الهلالية حول شجاعة أبو زيد الهلالي، على الرغم من أن السبب في انسحاب أردوغان هو أن منظمي المؤتمر لم يمنحوه فرصة زمنية، يعبر فيها عن رأيه، مساوية للفرصة التي منحوها لرئيس الوزراء الإسرائيلي. وكان تعليق أردوغان على انسحابه هذا ذا دلالة لا يتسع المجال لذكرها هنا، بخاصة قوله “أنا رئيس وزراء تركيا ولست رئيس قبيلة”.
هذا الموقف وما تلاه من شد وجذب بين تركيا وإسرائيل والتصريحات الساخنة ربما يكفي من وجهة نظر كثيرين لجعلنا ننسى أن تركيا كانت قبل أشهر قليلة أكثر دولة في الشرق الأوسط تجمعها علاقات تعاون مع إسرائيل، خصوصا في مجال التدريب العسكري. ولكن على الرغم من أن الطيارين الصهاينة الذين تدربوا في تركيا على مدار سنوات وحتى عهد أردوغان لم يكونوا يتدربون هناك ليقوموا بإلقاء أكياس من الأرز على أطفال فلسطين، إلا أن الموقف التركي الحالي على المستوى الإعلامي وعلى مستوى التصريحات موقف جيد ومرحب به منا جميعا، وأنا شخصيا أحيي وأحترم السيد أردوغان لتصريحاته الداعمة للفلسطينيين.
ولكن الشيء الغريب هو أن يلتهب خيال الكتاب والخطباء العرب ويفتتنوا إلى هذا الحد بموقف هو حتى الآن نظري، ولا يحقق على أرض الواقع أي شيء ملموس. فتركيا، مع كل الاحترام – وهي غير ملومة أيضا على ذلك – لم تنجح في استصدار قرار من الأمم المتحدة لصالح الفلسطينيين، وتركيا لن تدخل حربا عسكرية من أجل فلسطين، وتركيا لن تضحي بعلاقاتها مع الولايات المتحدة ولا بعضويتها في حلف النيتو من أجل فلسطين، وتركيا مهما قدمت من دعم مادي لفلسطين لن تقدم مثلما قدمت الكويت (وللكويت هنا قصة لا داعي لذكرها) ولن تقدم مثلما قدمت السعودية والبحرين.
وأما عن مصر التي تجلد كل يوم بمزايدات الصغار فلم ولن يتحمل أحد مثلما تحملت في سبيل القضية الفلسطينية، فمصر قد تختلف رؤاها مع فصيل أو أتباع فصيل أو مع طرف إقليمي يستخدم هذه الفصيل في شأن بعيد عن القضية الفلسطينية، إلا أنها حتى اللحظة هي السند الأول لفلسطين وأهلها.
مصر تـُلام لأنها تحمي حدودها بجدار عازل أو غيره، ولكن الذين مزقوا أنفسهم مئة قطعة وأقاموا بينهم وبين بعضهم جدرانا من الكراهية والشقاق ودقوا أكثر من مسمار في نعش القضية لا لوم عليهم.
أنا لا أقصد أن أرفع من شأن مصر وأخفض من شأن تركيا، فهما دولتان كبيرتان، وتعرف كل منهما مكانة الأخرى، فتركيا لم تعلن يوما أنها ضد الدور المصري ولم تقلل من أهميته، وتركيا لن تكون أبدا بديلا لمصر فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. ولكني أعلق هنا على عقول عربية طالما يسكرها الكلام، عقول ستظل تعيش في سوق عكاظ إلى يوم القيامة وستظل تنتج “زكائب” من الكلام كلما أعجبتها خطبة أو تصريح ناري.