رحل قبل أيام قليلة رائد الكتابة الساخرة في العالم العربي الكاتب العظيم محمود السعدني بعد رحلة طويلة من العطاء في عالم الصحافة والأدب،قدم خلالها انتاجا غزيرا من المقالات والروايات،وعمل في العديد من الصحف المصرية والعربية، ودفع ثمنا باهظا لقلمه الساخر الذي قلما يجود التاريخ بمثله.
السعدني خلال رحلة عطائه سخر من كل شيء حتى من نفسه، وجعل قراءه يتزلزلون من الضحك حتى وهو يكتب عن مواقف البؤس والألم التي لا يجوز فيها إلا البكاء والدموع. يجعلك تدمع ولكن من شدة الضحك عندما يصف حاله وحال الذين معه وهم مصفدين بالأغلال في السيارة التي نقلتهم إلى المعتقل في سجن القلعة وعندما كانوا ينتظرون في صفوف أمام السجن حتى يأتي دورهم في الدخول إلى الزنازين.
حتى عناوين كتب السعدني تدعوك للضحك لأنها في حد ذاتها عبارة عن نكات بالغة الأثر والدلالة، ويكفي القارئ لكي يضحك حتى الثمالة أن يفك اللغز الذي يعبر عنه عنوان كتابه «الطريق إلى زمش» الذي عبر فيه عن مأساة اعتقاله وهو لايدري لماذا اعتقل، فهو ليس شيوعيا ولا إخوانيا كغيره من المعتقلين، فعندما سئل عن الجماعة التي ينتمي إليها قال لسائله «زي ما أنت شايف»، أي «اختر لي التهمة التي تريدها» وقام بنحت مصطلح من الحروف الثلاثة في بداية الكلمات فأصبحت «زمش».
وهناك كثير من كتبه الأخرى التي تجعلك تضحك حتى وإن لم تقرأ سوى عنوانها، مثل «حمار من الشرق» و «رحلات بن عطعوطة» و «عودة الحمار»
كانت النكتة شيئا أساسيا في حياته لدرجة أنه تم فصله من العمل بجريدة الجمهورية بسبب نكتة أطلقها على الرئيس السادات. وأمتعت كتاباته جميع الطبقات ولكنها جلبت عليه كره الأنظمة الحاكمة، وكانت جنازته أكبر دليل على حب الجميع له، حيث حضرها مفكرون ورجال سياسة وصحافيون وأدباء وعمال وفلاحون وعدد كبير من البسطاء الذين عشقوه.
لم يسلم السعدني من الاعتقال في عهد الرئيس جمال عبد الناصر رغم حماسه الشديد له ولثورة يوليو وقضى سنتين من حياته في السجون دون أن توجه له تهم محددة.
وعندما تم التضييق عليه في عهد السادات، ترك مصر وتنقل بين بيروت وبغداد والكويت والإمارات العربية، ثم لندن التي أصدر منها مجلة «23 يوليو» التي كان يدافع فيها عن نظام حكم عبد الناصر.
كان السعدني ككل العظماء في مجال الكوميديا يضحكون العالم كله ويمتعونه وهم أشد الناس بؤسا وألما. ومن المقولات التي قالها السعدني عن نفسه وعبرت عن مدى شقائه الداخلي: «ورغم الظلام الذي اكتنف حياتي، ورغم البؤس الذي كان دليلي وخليلي، إلا أنني لست آسفا على شيء،فلقد كانت تلك الأيام حياتي، ومن عين تلك الأيام، ومن رحيق تلك الليالي خرج إلى الوجود ذلك الشيء الذي هو أنا».
رحم الله الأستاذ محمود السعدني أو الولد الشقي كما يطلق عليه في مصر.