بعض الناس يصاب بإحباط أو قهر من نوع ما، كأن يقف فقرهُ حائلاً بينه وبين الزواج من التي أحبها قلبه، أو أحبه قلبها. وقد تكون النتيجة لواحد من هؤلاء هي الضياع التام بعد أن تسود الدنيا في وجهه ولا يرى فيها أي شيء جميل.
ولكن هناك صنفٌ آخر من البشر ، عندما يواجه نفس الإحساس، ينطلق في الحياة يركض كالوحش..يعمل.. ويكد.. ويدرس.. ويتفوق في كل هذا ، ويحقق النجاح الوظيفي ويجمع المال.. وينسى في وسط هذا الزحام أو يتناسى تلك الحادثة التي كانت سبباً في قهره وإحباطه.. وقد ينسى الزواج وما فيه من جوانب ممتعة ويظل يعمل.. أو بالأحرى يحترق كالشمعة دون أن يدري .. معتقدا في الوقت ذاته أنه يوماً ما ، سيصل إلى محطة، عندها يستطيع أن يدرك ما فاته وينتصر على القهر حين يرى الجميلات يركضن خلفه، أو العكس بالعكس إذا كانت امرأة .
هذا النوع من البشر في الواقع، يمارس نوعاً من الهروب اللاإرادي من واقعه المؤلم.. ينسى بسببه أن الزمن يتحرك في إتجاه واحد فقط – إلى الأمام- فهذه هي سنة الحياة ، نستطيع أن نتحرك في المكان إلى الأمام ، وإلى الخلف.. وإلى اليمين وإلى اليسار وإلى أعلى وإلى أسفل، ولكننا لا نستطيع أن نفعل هذا بالنسبة للزمان.. فنحن نتحرك فيه فقط إلى الأمام.
وفي ظل هذا التحرك القهري، تتغير في الإنسان أشياء كثيرة – ليس فقط على المستوى النفسي- بل على المستوى الفسيولوجي ، وهو الجانب المعني أكثر بجوانب المتعة الحسية ، كتناول الطعام والشراب وممارسة الجنس.
هذا التغير يكون متجهاً نحو الضعف والتلاشي . وقد تكون ذروة المأساة هنا أن يتزامن تحقيق الإنسان لحلمه في النجاح الوظيفي وجمع المال والوصول إلى النجومية بعد كده الطويل ، وبين وصوله لنقطة الصفر فيما يتعلق بقدرته على الإستمتاع بما وصل إليه..
أصبح مليارديراً ..أو وزيراُ .. أو حتى مدير عام كما في رواية “حضرة المحترم” لعملاق الرواية العربية نجيب محفوظ ، ولكن بعد فقدانه الصحة والقدرة على الفعل .. لا يستطيع أن يأكل ما يشتهي بعد أن أصيبت معدته بالقرحة والضمور، وبعد أن هرم قلبه بفعل التوتر والهم الطويل.
لا يستطيع للأسباب ذاتها أن يمارس الجنس بعد أن ذوت رغبته ودخلت كل أدواته متحف الزمن وأصبح هذا العالم الجميل أمراً متعلقاً بالماضي.. ويصاب الإنسان بحسرة وقهر ربما أشد من قهره الأول الذي دفعه ليسير هذا الطريق الطويل دون جدوى .
الكاتب المصري الساخر محمود السعدني وصف مأساة هذا النوع من البشر بشكل يفيض بالمرارة ، فهو يقول أن الفقير ، مهما كافح واجتهد، لن يستمتع أبداً بالطعام الجيد لأن كفاحه المرير حتماً سينتهي به إلى المرض، وعندئذ لا يستطيع مثلاً أن يأكل شيئاً حلواً من الذي كان تشتهيه نفسه أيام فقره، لأنه أصبح مصاباً بمرض السكري. وفي النهاية لابد للإنسان أن يحمد الله على أن هناك جنة ونار، وهناك في الجنة شباب دائم وحور عين بالنسبة للرجال. ونرجو من الله أن يكون الرجال هناك مختلفين عن رجال الدنيا، وألا ينشغلوا فقط بالحور العين ويتركوا نساءهم اللاتي اقتسمن معهم الفقر والعجز والنكد في الدنيا !