جدلية علاقة المثقف بالسلطة جدلية قديمة جديدة، لم يسلم أبوالطيب المتنبي من أوارها المشتعلة بكافور الإخشيدي حاكم مصر، حيث عانى المتنبي الأمرين جراء معاملة الأخير الخشنة له، وهو المعتاد على العز والدلال في كنف سيف الدولة الحمداني.. وأودع المتنبي في السجن عديد مرات إبان حكم الإخشيدي، ولما بلغ به الحنق والغضب مداه جراء بخل كافور وتقتيره في مجازاته، كتب ذات مرة منتقداً كافور – الذي هو في الأصل حلاقاً: من أية الطرق يأتي نحوك الكرم… أين المحاجم يا كافور والجلــمُ؟!
ليرد عليه كافور قائلاً: ألا يا لعنة الله صبي على قفـــا المتنبي… إذا كنت أنت نبياً لاشك أن القرد ربي!
وهكذا استمرت العلاقة في شد وجذب بينهما، لينهيها كافور بإطلاق سراح المتنبي من السجن أيام العيد، ليس عطفاً ورأفة بحاله، وإنما للتخلص من لسانه ونقده اللاذع بخصوصه، حيث أمر بترحيله خارج مصر. وحتى حينما نال شاعرنا الكبير الحرية وكسي بأثوابها، كتب ينتقد كافوراً بأبياته الخالدة على مدى الأزمنة والأمكنة:
عيد بأية حال عدت يا عيدُ بما مضى، أم لأمر فيك تجديدُ.. أما الأحبة فالبيداء دونهم فليت دونك بيد دونها بيد.. لا تشتري العبد، إلا والعصا معه إن العبيد لأنجاس مناكيد!
إذا فالعلاقة بين السلطة والمثقف علاقة شائكة منذ الأزل، وإن تغيرت قوالبها وتصنيفاتها أو تبوباتها، تباعاً لتغير الزمن وما لحق به من مقتضيات ومعطيات حديثة وأخرى مستحدثة، إلا أنها اقترنت على الدوام بالتنافر. فلماذا اتسمت بتلك الطبيعة النديـّة؟
أما من سلطة عادلة، تستقيم ثوابتها وثوابت المثقف صاحب القضية والضمير الحي؟ أم أن الخلل في تركيبة المثقف نفسه؟ كما يرى البعض في عدم واقعية وصوابية الأطروحات التي يتقدم بها المثقف على أرض الواقع، حيث الحالة الأقرب إلى الانغماس في عالم المبادئ والقيم والمثل (اليوتوبيا) وهو عالم بعيد كل البعد عن عالم رجل السياسة، إذ المصلحة البراغماتية وفن الممكن الأكثر تسيداً، مما أسهم في تهميش المثقف وركنه في الزاوية.
في الحقيقة، تنبهت السلطة لأهمية حضور المثقف وتأثيره الجماهيري، فارتأت حماية نفسها بالإكثار من وهج المثقفين من حولها، درءاً لأية مفاسد ربما.
في حين تهافت نفرٌ من المثقفين نحو بريق السلطة، فانكب يجتر من مالها وجاهها والمركز، في حين استطابت شريحة أخرى “هامش” القضية على “مركز” اللاقضية.
فهل وجد المثقف العربي نفسه في كنف السلطة؟ أو لم يكن موجوداً قبلها؟ وإن لم يكن كذلك، لماذا سعت السلطة لاحتوائه؟
إذا قد تنقلب الأمور حقاً، وتصبح الزاوية هي المركز، والمركز هامشاً، كما يؤكد على الدوام “دريدا”، وإذا كان المركز في أكثر الحالات يشكل البؤرة الأساسية والانطلاقة، فإنه بالنسبة للمثقف يعني “التهميش”، لأنه في المقابل فإن ركن المثقف العربي في الزاوية، لا يعني إطلاقاً تهميشه، فكم من زوايا قامت عليها قواعد وأسس، وكم من زوايا استحكمت حتى حكمت.
إنما تهميش المثقف العربي الحقيقي يكمن في تقييده وتكبيله واستعباده في المركز، حيث الخوف من أو على الكرسي/ المنصب أو الصيت الاجتماعي، وهذا لا يتحقق في الهامش، لأن الهامش حر.. وللحرية ثمن، لا يقل عن ثمن العبودية. “فإذا كان قيد الحديد عسر.. فإن قيد الحرير لا ينكسر.. بئس القيد كله”.