قبل أيام وصف رضي السماك هذا العام بأنه عام الأحزان لكثرة الأعزاء الذين رحلوا فيه، وبعد أن تلقيت نبأ رحيل أستاذنا محمد البنكي تأكدت فعلا أنه عام الأحزان، لأن البنكي كان من خيرة شباب البحرين وأكثرهم رقيا ونقاء وثقافة.
كان رحيله صدمة كبيرة لي، فعلى الرغم من علمي بالمرض اللعين الذي أصابه منذ البداية وكيفية تعامله ومعايشته ومنازلته له، إلا أنني لم أتصور رحيله بهذه السرعة، وهذا هو شعور كل البشر نحو الأعزاء عليهم.
كنت كغيري كثيرين قد قرأت ما سطره البنكي بقلمه عن تجربته مع هذا المرض اللعين في وثيقة أدبية غير عادية أعتقد أنها ستبقى مرتبطة باسمه وبهذا المرض الفتاك ومعاناة أصحابه إلى أمد بعيد لما تفيض به من معاناة وأسى وصدق في التجربة.
البنكي – ذلك الكائن الاستثنائي الحساس – قرأ نبأ مرضه في عيني الطبيب قبل أن يخبره إياه بلسانه، وقال جملته الشهيرة: “هو الكلام الذي ينقش على محاجر العيون بأبلغ مما تقوله كل ألفاظ الأرض”. وقال قولة أخرى تبين إلى أي مدى تصنع المعاناة بالأديب الرائع الإحساس: “أضع دون رعب قدمي في الرجاء…كما لو السرطان العابر!”.
قرأت ما كتبه البنكي آنذاك عشرات المرات. قرأته جملة جملة، وكلمة كلمة، وحرفا حرفا، وذكرتني وثيقة معاناته هذه بروايات الكاتب الكبير يوسف السباعي لما فيها من أسى وصدق في التجربة. كان البنكي في واقع الحال ينعى نفسه قبل أن ينعاه الأهل والأحباب كعادة العظماء من أهل الأدب والفلسفة.وقد بكيته أنا من يومها، والأعمار بيد الله.
كل بن أنثى وإن طالت سلامته
يوما على آلة حدباء محمول
ومن اللحظات المؤلمة التي عاشها البنكي وعشناها معه، وذكرها أيضا في وثيقة المعاناة، خلال منازلاته الكثيرة مع المرض، يوم أن جاء إلى جريدة الوطن التي عمل رئيسا لتحريرها وأعلن النبأ الحزين في اجتماع محرري الجريدة لأول مرة وقال لهم أنه سيغيب عنهم لبعض الوقت من أجل تلقي العلاج، وكيف كانت اللحظة صاعقة للجميع رغم تبسيطهم لما سمعوه منه.
رحم الله أستاذنا محمد البنكي، الذي لم يكن بالنسبة لي شخصا عاديا ولكنه معلمي الذي علمني الكثير وأخذ بيدي، وكان وفيا لوالدي في زمن قل فيه الأوفياء، وفتح لي مجال الكتابة في جريدة الوطن، ولم يكن لي دوما إلا أستاذا وناصحا، كما لا أذكر انه وقف يوما أمام تطلعاتي، أو حاول كسر معنوياتي ولطالما همس في أذني قائلا: “أنت ابنة أستاذنا الكبير خليفة قاسم وعليك أن تكوني امتدادا له، على أن تستوعبي هذا الامتداد”.
جمعتني وإياه سفرتان – وفي السفر تعرف معادن الرجال – إلى ليبيا وأخرى إلى معرض الكتاب بالقاهرة في عام 2008،وكان في قمة التواضع والكرم والشباب المتدفق… فضلا عن التساؤلات العالقة التي يتركها خلفه كسحابة مثقله بالغموض والبوهيمية.
لم أتفاجأ بعد رحيله المؤلم عن دنيانا بهذا الحب الكبير والشعبية التي عبر عنها أبناء البحرين تجاهه،فقد كان البنكي إنسانا رائعا في كل شيء، ورغم تبوأه لمنصب حكومي رفيع في أيامه الأخيرة، إلا ان ذلك لم يحل دون محبة الآخرين له، وهذا قلما تجده في عالمنا العربي، إذ كثيرا ما تعمي المناصب والكراسي أصحابها من رؤية الجوانب الانسانية- الرصيد المتبقي الوحيد- لبني آدم.
فإلي جنة الخلد يا أستاذي العزيز، وأشهد انك كنت من خيرة شباب البحرين ومن أبنائها المخلصين، وهنيئا لك الشهادة، وعزاءنا لكل الذين أحبوك، إلى “لطيفة، فاطمة، جاسم وروان” وإنا لله وإنا إليه راجعون.