زبدة القول

زبدة القول

التدريس أيضاً كالطب، مهنة إنسانية، بل هي أعظم وأسمى من أن نطلق عليها لقب مهنة، فهي في الأساس رسالة اختص الله بها الأنبياء، وقد قال الشاعر أيام كان الناس يقدرون المعلم:
قم للمعلم وفه التبجيلا / كاد المعلم أن يكون رسولا
وبالتالي، ما قلناه عن الطبيب لابد أن نقوله عن المعلم، فالمعلم لا يجب أن تحكمه المادة وحب المال، فيقوم بتقديم العلم لطلابه مدفوعاً بالدوافع المادية من دون غيرها فيصبح كالتاجر أو صاحب المطعم أو غيرهما ممن يبيعون ويشترون.
لاشك في أن التعليم مهنة شاقة، وأصحابها يدفعون من صحتهم ثمناً غالياً عندما يكونون مخلصين لها، ولذلك فقد قال شاعر آخر:
يا طالب الانتحار وجدته / إن المعلم لا يعيش طويلاً
ولكن على الرغم من كل هذا، فإن على المعلم أن يدرك من البداية أن هذه المهنة ليست كغيرها من المهن، فهي رسالة، ومن يخلص في تأديته لها لا يكافئه أي راتب أو أي مال، فهي رسالة يمارسها صاحبها وهو محكوم بخلق الأنبياء ويرضى بما يرزقه به الله.
وأنا هنا لا أدعو إلى أن يعمل المدرس من دون مقابل ولكني أقصد أن المدرس يجب أن يعشق هذه المهنة ويقبل ما فيها من مشقة ويعتبرها رسالة وأن يكون لديه الاستعداد للتضحية والعطاء وأن تكون فرحته الكبرى عندما يرى علمه قد وصل إلى طلابه واستفادوا به وتفوقوا. وعلى الجانب الآخر لابد أن تقوم الدولة بتوفير العيش الكريم للمدرس.
أقول كل هذا الكلام لأن صورة المدرس في زماننا هذا قد أضيرت إلى حد مدمر، فلم يعد جيلنا والأجيال التي أتت بعدنا تنظر إلى المدرس النظرة نفسها التي كان ينظر بها اليه آباؤنا وأمهاتنا. وكانت بداية الانهيار لصورة المعلم يوم أن بدأ يمد يده لتلميذه ويأخذ منه أجر الدروس التي يعطيها له، يوم أن انقلبت الصورة وأصبح المدرس هو الذي ينتقل إلى الطالب في بيته بدلاً من أن ينتقل الطالب إلى المدرس في المدرسة إكراماً للعلم.
لقد وصلت الأمور في بعض الأسر إلى تكليف المدرس بحل الواجب المنزلي للابن أو البنت لكي يذهب إلى المدرسة في اليوم التالي وقد أعد كل واجباته. فأي صورة سيحملها هذا الابن أو البنت للمدرس عندما يكبر؟.. أي صورة سيحملها للمدرسة وللتعليم بأكمله، مادام المدرس لم يعد مدرساً بل أصبح “مرمطون” كما يقول الإخوة المصريين؟!