في كتابه الذي يحمل عنوان “العالم الثاني” يتساءل الكاتب باراج خانا: هل يمكن أن تنزلق أميركا – أيقونة العالم الأول لعقود متعاقبة – إلى مصاف العالم الثاني؟ كما هي الحال مع الامبراطوريات كلها، فالحضارة كما قال توينبي عبارة عن حركة وليس وضعا، رحلة وليس مرفأ، وأكثر أسباب انحطاط الامبراطوريات شيوعا، كانت النزعة العسكرية. وانحلت امبراطوريات الماضي بسبب الأكاذيب الداخلية وهوجمت كل منها من قبل البرابرة. وليس في وسع العتاد والأفراد ذوي النفوذ أن يخفوا الانحطاط النسبي لأميركا إذ إن هؤلاء هم الرموز الأساسية لهذا الانحطاط.
ويبين الكاتب أن التمدد الامبراطوري المفرط لأميركا يتواكب مع تهاوي هيمنتها الاقتصادية، مقوضا بذلك الأساس الجوهري لقيادتها العالمية. وقد لا تكون أميركا قد أصابها ما أصاب روما عندما نهبها البرابرة، لكنها تشبه اسبانيا الاستعمارية في اعتمادها على التمويل الخارجي والحلفاء – الذين هم مثل الخشب المسندة – من الأمور التي تجعلها هشة وضعيفة بطريقة لا سبيل للتخلص منها.
ويقول الكاتب “ولأن مدفوعات الديون الأميركية تتخطى مقدار الاستثمار الذي تتلقاه، تستنفد أميركا الثروة المدخرة للجيل القادم وهو ما يجعلها أكثر فقرا، وأن المغامرة المالية لأميركا تتوازى – بمنتهى الوضوح – مع مغامرتها العسكرية، فالمغامرتان ترمزان إلى المدى الذي تذوب عنده أجنحة أميركا متجهة نحو القصور الذاتي، لأنها قد اقتربت كثيرا من الشمس وقارب مخزونها من الغاز على النفاد.
ويبين الكاتب أن أميركا تبرر عدم التزامها بالمواثيق الدولية مثل بروتوكول كيوتو أو المحكمة الجنائية الدولية، إما بداعي حاجة تلك المواثيق إلى التطوير، أو بحجة متطلبات وضعها العالمي، ولكن ما هو تفسير الانحرافات الداخلية؟ ليس من اليسير تحليل أميركا نفسيا، فهي دولة مليئة بالمتناقضات كما قال عنها العالم النفسي إريك إريكسون: “مهما حاول المرء التوصل لخاصية أميركية حقيقية، فسرعان ما يكتشف أن نقيضها أيضا خاصية أميركية، فالكرم والأنانية على سبيل المثال خاصيتان أصيلتان لكنهما متناقضتان من الخصائص الأميركية. وإذا كان صحيحا أن نقول إن طريقة أي مجتمع في الحروب توضح طبيعته، فمن الواضح أن ضبط النفس ليس فضيلة أميركية.
ويقول الكاتب إنه ينطبق على اميركا ما كتبه المؤرخ اليوناني بوليبوس عن روما القديمة، بدءا من تمجيد القوة العسكرية حتى ثقافة المصارعين في الرياضة: الثروة الكبيرة والبذخ يؤديان إلى أسوأ أنواع الحكومات، ألا وهو حكم العامة للنخبة بهدف واحد هو منع الآخرين من أن تكون لهم اليد العليا. وكما أسقطت المسيحية روما، أليس من المحتمل أن تفعل ذلك مع أميركا؟ فما أطلق عليه رينولد نيبور “شعور أميركا بالمخلص المنتظر” قد تسلل حتما إلى سياستها الخارجية وتسبب في تآكل الكفاءة الاستراتيجية التي تمليها الواقعية. كما أدى التكريس الديني للسياسة الخارجية إلى تركيز أكثر على حقوق الإنسان وحرية العقيدة والمعاناة من الأمراض الشائعة،لكنه تركيز خطابي، حيث إن السياسات المتعلقة بهذه الطموحات لم تحقق أيا من تأثيراتها المستهدفة.