ثورة يوليو تكاد تكون أكثر حدث عربي كتبت عنها أديبات بهذا الكم الكبير، فكثيرون جداً مدحوها، ومدحوا قائدها الرئيس جمال عبد الناصر، وكثيرون جداً جلدوها ولا يزالون يجترون الماضي كل عام ، ويصلون في نقدهم للثورة إلى حد تحميلها مسئولية تأخر العالم العربي في مجالات كثيرة ، رغم أن الثورة قد مضت منذ سبعة وخمسين عاماً ،وهى فترة تغير فيها العالم تغيرا مهولا في مجالات عديدة.
وها أنذا أكتب أيضاً رغم أني ولدت بعد قيام الثورة بسبعة وعرشين عاماً، وأقول أن ثورة يوليو هي ككل ثورة قامت في العالم وكلل نشاط إنساني يقوم به البشر له مميزات وعيوب ، ورجالها لهم مالهم وعليهم ما عليهم. ولكن لابد أن يأخذ كل من يكتب ويتحدث عن الثورة في اعتباره ان قيام ثورة معناه تغير أوضاع كانت قائمة، أوضاع يستفيد منها البعض ولا يستفيد البعض الآخر، وبالتالي فإن تغير الأوضاع لابد وان يأخذ ميزات تزيد أو تنقص من فريق معين من البشر، وبالتالي يتباين موقف البشر من هذا التغير الجديد، فمنهم من يصف الثورة بالطغيان والظلم ومنهم من يعتبرها صانعة لليوتوبيا على الأرض.
والرئيس الراحل جمال عبد الناصر ، لم يكن نبياً أو قديساً ولم يكن أيضاً خائناً أو عميلاً أو فاسداً، أصاب أم أخطأ في بعض المواقف – فهو بشر – ولكنه كان إنساناً نبيلاً أحب الخير لهذه الأمة العربية على اتساعها واجتهد من أجل أن تحتل مكاناً يليق بها في التاريخ ، كافح ضد الاستعمار في مصر وفي العالم العربي كله ، لم تتحقق كل أحلامه، هذا صحيح ، ولكن لأن قوى كثيرة في هذا العالم وقفت ضد هذه الأحلام بكل قوتها. أحلام عبد الناصر لم تكن أحلاماً شخصية ولكنها كانت أحلاماً للأمة كلها، وعندما كان يخطب كان يقول : باسم الأمة .
عبد الناصر نادى بالوحدة وسعى لها ، ولكنها لم تتحقق، وهذا أيضاً لا يعني أن الوحدة مطلباً خيالياً أو طوباوياً يستحيل تحققه على الأرض ، ربما كانت الوحدة غير ممكنة بالشكل الذي حلم به وأراده عبد الناصر ، ولكنها تبقى ممكنة وتبقى هي الحل لهذه الأمة، إذا ما فكرنا فيها بأشكال أخرى .
ولا يشترط أن تكون الوحدة اندماجاً كاملاً يتجاوز المصالح والخصوصيات التي تختلف من دولة إلى أخرى، ولكن الوحدة يمكن أن تكون من خلال سوق عربية مشتركة يكون من ثمارها حل مشكلة البطالة في العالم العربي عندما يتم انتقال العمالة العربية دون قيود .
الوحدة يمكن أن تتحقق بصناعة عربية مشتركة تشارك فيها كل دولة حسب إمكانياتها ، لكي نصبح كغيرنا قادرين على إنتاج صناعات ثقيلة لا يمكن لدولة عربية منفردة أن تقوم بها . ويجب ألا ننسى أن دول الاتحاد الأوروبي حققت هذا وأكثر رغم أنها تتباين في لغاتها وثقافتها .
عبد الناصر جاء ورحل وأدى ما عليه تجاه أمته العربية، واستحق بكفاحه الذي غير هذه الأمة ونقلها من مرحلة إلى أخرى أن يكون من قادتها التاريخيين العظماء ، وعندما رحل اختلف الناس حوله حسب الظروف الجديدة التي صنعتها الثورة وتأثيرها على كل منهم، ولكن لم نسمع من أعدائه قبل أصدقائه أن عبد الناصر جمع مالاً أو هرب ثروة أو شيء من هذا ، فعبد الناصر مات ولم يترك وراءه من حطام الدنيا إلا القليل.
عبد الناصر اختلف مع العالم وتحرش به أعداؤه ووقفوا لمشاريعه وأحلامه بالمرصاد ولكنهم احترموه وحسبوا له حساب . قال عنه أحد رجال المخابرات الأمريكية : إن المشكلة مع عبد الناصر أنه لا يمكن تخويفه أو رشوته أو تخوينه ، إنه لعنة جميلة .