بعد معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل تغيرت السياسة الخارجية المصرية تجاه أفريقيا، وعادت إسرائيل لتمد نفوذها بقوة في القارة السمراء بعد أن كانت قد طردت منها بعد عدوان 1967 وبعد حرب أكتوبر 1973 حيث قامت نحو 30 دولة أفريقية بقطع علاقاتها مع إسرائيل بسبب سياساتها العدائية تجاه العرب. وقد عبثت إسرائيل إلى حد بعيد بالأمن القومي المصري والسوداني من خلال وجودها في القارة الأفريقية من بعد معاهدة كامب ديفيد المشؤومة.
فإسرائيل لم تكن أبدًا بعيدة عن الانشقاق السوداني وعن عملية فصل الجنوب عن الشمال، فقد ثبت أن إسرائيل هي التي غذت النزعة الانفصالية للجنوبيين وأمدتهم بالسلاح والتدريب ضمن صفقات تم الاتفاق عليها منذ الثمانينات من القرن الماضي ومن بينها أن تتولى الشركات الإسرائيلية استخراج النفط الجنوبي مقابل السلاح والتدريب الذي تقدمه للجنوبيين.
وفي ظل عدم فاعلية السياسات العربية تجاه هذا الجرح السوداني المفتوح منذ سنين طويلة، لم تكتف الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة بمجرد دعم الانفصاليين الجنوبيين ولكنها مارست ضغوطًا شتى لإرباك النظام السوداني في الخرطوم طوال الوقت. والنتيجة هي ما نراه الآن من تجهيز للفصل الفعلي لجنوب السودان عن شماله.
أما مسألة مياه النيل فيبدو أيضا أن إسرائيل قد قطعت فيها شوطا كبيرا ضمن خطة صهيونية بدأت أيضا منذ سنين، ومن العجيب أن تتزامن أزمة مياه النيل التي نشأت عن قيام خمس دول من دول المنبع بالتوقيع على اتفاقية جديدة لإعادة توزيع حصص المياه مع دولتي المصب، مصر والسودان، دون موافقة الأخيرتين، – تتزامن مع التجهيز لفصل جنوب السودان عن شماله.
قد يفسر تجرؤ أثيوبيا ومعها دول منابع النيل التي تعد من أفقر دول العالم، على تحدي مصر والسودان بحالة الضعف العربي وانهيار الأمن القومي العربي بعد احتلال العراق للكويت وانهيار الاتحاد السوفياتي وتغير موازين القوى العالمية لغير صالح العرب وفشل الدبلوماسية المصرية في أفريقيا، وقد يفسر اطمئنان مصر إلى عدم المساس بحصتها من المياه خلال السنوات الماضية بكونها تعلم أن دول منابع النيل ليست في حاجة أصلا إلى أي حصص جديدة من المياه، لأسباب عديدة لا يتسع المجال لذكرها، ولكن هل كانت مصر غافلة طوال كل هذه السنوات عن اللاعب الصهيوني الذي قام بخلق مصالح مشتركة مع هذه الدول الفقيرة وقدم مساعدات لإثيوبيا وحدها لبناء 3 سدود على النيل بمساعدة إيطاليا؟
لقد نشرت جريدة “المصري اليوم” قبل أيام خبرا حول مذكرة أعدها المجلس المصري للشؤون الخارجية تبين أن هناك خطة صهيونية لتوصيل مياه النيل إلى الدولة العبرية، وقد أوضحت هذه المذكرة حسبما أوردت الجريدة المصرية أن الخطة التي تريد الدولة الصهيونية تنفيذها يجري الترويج لها بواسطة عملاء أوغنديين وتتضمن وعدا إسرائيليا بتنفيذ مشروع قناة “جونجلي” في جنوب السودان (سواء تم فصل جنوب السودان عن شماله أم لا)، وهو ما يؤدي إلى زيادة حصة مصر والسودان من 10 إلى 15 مليار متر مكعب سنويا على أن تلتزم مصر والسودان بتوصيل نصف هذه الكمية للدولة الصهيونية وتقوم الأخيرة بدورها بدفع مبلغ 10 سنتات مقابل كل متر مكعب لدول منابع النيل.
وبهذا يكون الهدف الصهيوني قد اتضح تماما وهو إقرار مبدأ غير موجود في القانون الدولي وهو تحويل المياه إلى سلعة كالنفط تباع خارج أحواض الأنهار، وتحصل على المياه بشكل ثابت وتسرق من العرب كل شيء، فهي تسرق المياه من الأردن، وتسرق المياه من الجولان وتقوم بشفط المياه الجوفية من الأردن وتحرم الفلسطينيين من حقهم المشروع في المياه وتخطط لسرقة النفط السوداني قبل أن ينعم به السودانيون أنفسهم.
ولسنا في حاجة لأن نبين أن مشكلة مياه النيل بين مصر والسودان من ناحية، وبين دول منابع النيل بقيادة إثيوبيا المدعومة من إسرائيل من ناحية، هي جرح عربي جديد يجب التعامل معه بكل جدية قبل فوات الأوان.