اجتهدت وعصرت ذهني كثيرا لكي أضع عنوانا معبرا عن عالم “الراكوبة” السودانية وما أجده فيها من كنوز فكرية وسياسية، ولكنني لم أوفق، فكلما صغت عنوانا تبينت بعدها أن المسألة أكبر وأوسع، فالفكر موجود،والهم حدث ولا حرج، والإبداع شيء واضح.
“الراكوبة” لمن لا يعرفها هي جريدة إلكترونية سودانية تعرفت على قيمتها وأهميتها بعد أن تناولت الشأن السوداني بالصدفة، حيث أعاد بعض الصحافيين السودانيين المقيمين بالبحرين وأخص بالذكر الأستاذ خالد ابو أحمد نشر ما كتبته في هذه الجريدة السودانية الرائعة ووضعوني وسط عالم من الفكر والحكمة والمرارة والسخرية والتنوع، فقد كتبت أشياء بسيطة لا تزيد عن كونها خواطر لمواطنة عربية ولكنني وجدت في كل تعليق وردني عليها درسا مفيدا في شيء محدد وبدأت أضع أقدامي على بداية طريق التعرف على السودان وأهله، وكنوزه، وهمومه، ومعاناته، بشكل جعلني أتساءل أكثر من ذي قبل: ألا يستحق أصحاب هذه الأفكار وهذا الإبداع أن يكونوا في وضع أفضل؟
الغالبية العظمى ممن يكتبون التعليقات أناس محترمون وأصحاب لغة وثقافة رفيعة وهو ما جعلني أتسامح مع بعض الهابطين فكريا ولغويا.
هذا التفاعل وهذه الفائدة التي أحصل عليها من المعلقين المثقفين لم تتحقق فقط من تفاعلهم مع أفكاري ولغتي المتواضعة، ولكن من المعارك الثقافية الجانبية التي تدور بين بعضهم البعض حول ذات الموضوع أو غيره.
ولكنني رغم كل هذا ورغم أن موضوعي كان يتناول مسألة إغلاق السودان للمراكز الثقافية الايرانية، قد تفاجأت بأحد المعلقين يرمز لنفسه بـ “شاهد إثبات” يكتب تحت عنوان “وكمان عشان نرد ليك التحية بأحسن منها… هذه هي مصر عبر العصور” ويقول: “العلاقات المصرية السودانية ظلت عبر العصور قائمة على الاستخفاف بالسودان والابتزاز والحرص على المصالح الضيقة للمصريين… “استفدنا شنو من بناء السد العالي؟”، وإذا كان هناك من يراهن على مصر السيسي دعمه لإزالة نظام الإخوان المسلم ينفي السودان وعبر فضائياتهم المأزومة انه يراهن على سراب يحسبه الظمآن ماء، سيستمر مسلسل الابتزاز للنظام والسعي نحو المصالح المصرية الضيقة لأن التغيير في مصر لم يتم أصلا، نفس الدولة العميقة التي أسسها عبد الناصر 1952 الدولة المركزية والفاشية دولة الراعي والرعية تعاقب عليها السادات ثم حسني مبارك ثم مرسي ثم السيسي.. هذا هو الوعي السائد في مصر ويعلنونه نهارا جهارا في فضائياتهم وصحفهم.. وعمرها مصر لم تخدم قضية الديمقراطية في السودان.. ومنذ استقلالنا 1956 لسبب بسيط – فاقد الشيء لا يعطيه – وكراهيتنا للإخوان المسلمين لا تعمي بصرنا وبصائرنا عن رؤية حقيقية لمستقبل السودان والعلاقات المصرية السودانية وفق رؤية استراتيجية حقيقية وليس أهواء أهل الحكم المتقلبة، وإذا انت بتحترمي السودان فعلا قولي لأهلك في مصر العاملين في الإعلام المصري ليتركوا المسخرة على السودان والسودانيين وفي السفارات المصرية في الخارج – وهذا الأمر موثق، وليخصصوا فضائية كاملة للتعريف بالسودان حضاريا وفكريا وثقافيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا ونفسيا وإبداعيا، فضائية واحدة، وهذا لن يحدث والأسباب معروفة بعد أن رأينا ما حاق بحسنين والجبهة العريضة والحديث ذو شجون”. (انتهى كلام شاهد الاثبات).
أستغرب من الأخ الكريم أن يقحم مصر وما يحمله تجاهها فيما كتبته حول السودان وقضية التشيع وإغلاق المراكز، وأتساءل عن استخدامه لعبارة “قولي لأهلك في مصر”.
إذا كان يقصد أنني أو أحد والدي من أصول مصرية، فهذا غير صحيح، فأنا بحرينية أبا عن جد، وإذا كان يقصد أنني في كتاباتي السابقة دافعت عن مصر بشكل أو بآخر، فهذا ليس عيبا، وليس من يمدح مصر يريد بالضرورة الإساءة للسودان، وأعتقد يا “شاهد الإثبات” أن شهادتك مجروحة وكلامك قد دل عليك بدرجة مئة بالمئة ولا مجال للتوضيح أكثر من ذلك، لقد انفعلت يا أخي بلا ضرورة فأنا لم أسئ إلى السودان ولكنني مدحت أفضل ما فيه أي المثقفون الرائعون.